يقول: (وكذلك من عرف بقلبه وأقر بلسانه لم يكن بمجرد ذلك مؤمناً حتى يأتي بعمل القلب من الحب والبغض والموالاة والمعاداة). وهنا تتضح أهمية الحب والبغض والموالاة والمعاداة، وهي مسألة عظيمة جداً؛ لأن من قال: أشهد أنك رسول الله، أو: أشهد أن القرآن حق؛ فلا بد له من أن يحب هذا الدين ويحب النبي صلى الله عليه وسلم، ويحب القرآن، وهذا الحب يثمر العمل والامتثال، وفي نفس الوقت يبغض ويكره ما يخالف هذا الدين، فلا بد من أن يتبرأ مما عليه
اليهود و
النصارى والمشركون وأهل كل ملة تخالف هذا الدين، ولا بد من أن يوالي وأن يعادي، فيوالي المؤمنين الذين بقوله هذا أصبح واحداً منهم، ويحبهم ويقدمهم ويفضلهم، ويعادي ويبغض الكافرين والجاحدين والمارقين، فهذا أمر لا بد منه. فلو أن أحداً ادعى الإيمان ولكن لم يكن لديه حب للإيمان على الحقيقة وبغض للكفر، ولم يكن لديه موالاة للمؤمنين ولا بغض للكافرين؛ فهذا لا يكون مؤمناً، ومن كان الناس عنده سواء المؤمن والكافر، والأديان عنده سواء الإسلام وغير الإسلام؛ فهذا لا يكون مؤمناً أبداً، وإن كان في نفسه لا ينكر الإسلام، ولا ينكر الدين، ولا ينكر القرآن. والنماذج على هذا قديماً وحديثاً كثيرة، ومن ذلك كلام
شيخ الإسلام رحمه الله عن التتار، حين أفتى بوجوب قتال التتار؛ لأن الناس -كما ذكر
ابن كثير رحمه الله- اختلفت وهاجت واضطربت، فقد كانوا يقولون: كيف نقاتل هؤلاء التتار وقد أعلنوا دخولهم في الإسلام، و
قازان ملكهم يقول: أنا مسلم، وعنده في جيشه الأئمة والوعاظ والمؤذنون، وبعض الجيش يصلون؟! فاحتار الناس؛ لأن
قازان كان يحكم
العراق ، فأراد أن يحارب أهل
الشام ، فاحتار العلماء على أي وجهٍ يخرجون لقتال
قازان ومن معه، أهو قتال
الخوارج أم قتال البغاة أم قتال المحاربين؟ وماج العلماء واضطربوا، وقد ذكر
ابن كثير رحمه الله تعالى كلاماً عظيماً ونفيساً في
البداية والنهاية في جمع الله تعالى شمل الأمة على كلام شيخ الإسلام
ابن تيمية .فالفتن دائماً مؤداها الاضطراب إلا من رحم الله، لكن القول البين هو قول أهل العلم والإيمان الذي يشفي الصدور ويذهب الفتنة ويزيل الغبش. فأفتى
شيخ الإسلام رحمه الله بأنهم يقاتلون من جنس قتال المرتدين، وذكر ما قاله الفقهاء في قتال الطائفة الممتنعة عن شيء من شعائر الإسلام، ثم أخذ يعدد أحوال هؤلاء التتار ومن الأمثلة على ذلك: أن غاية ما في الأمر عندهم أنهم يقولون: إن هذا الدين حق، أو: إن هذا الدين عظيم وجليل، وذكر عبارتهم المشهورة عن ملكهم أنه يقول: رجلان عظيمان: محمد و
جنكيزخان ، فهذا مبرر وموجب لأن يقاتلوا قتال ردة، فليسوا بمسلمين. ولو طبقنا كلام
ابن القيم رحمه الله لوجدنا أن هذا ما أحب حقيقة الحب ولا أبغض، فالموالاة والمعاداة والحب والبغض التي هي من أعمال القلب ما جاء بها من قال هذا القول ومن اعتقده؛ لأنه كان يجب عليه أن يشهد أن محمداً رسول الله صلى الله عليه وسلم حقاً، ويتبرأ من
جنكيزخان ، وأن يحب المؤمنين ويواليهم، ويتبرأ من المشركين، أما أن يكون في جيشه مشركون، وبعض أتباعه نصارى وبعضهم وثنيون، ثم يقرن بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين
جنكيزخان ، فهذا كفر صريح، فأصبح الوضوح في المسألة ماثلاً أمام الناس بعد كلام
شيخ الإسلام هذا. فكثير من قضايا التكفير أصلها مبني على معرفة حقيقة الكفر وحقيقة الإيمان، فإذا عرفت حقيقة الكفر وميزت عن حقيقة الإيمان اتضح الكافرون من المؤمنين، واستبانت سبيل المجرمين، ولذلك فإن من يفتخرون بالحضارات القديمة، ورجال التاريخ القديم من الفراعنة والآشوريين والفينيقين، ثم يفتخرون إلى جانب ذلك بالفتح الإسلامي والحضارة الإسلامية، ويقولون: هذا حق وهذا حق، وهذه حضارة وهذه حضارة، وهم مثل هؤلاء التتار، فهم في الحقيقة لم يأتوا بعمل القلب من حب وبغض وموالاة ومعاداة. وكذلك من يزعمون أهمية الحوار أو التقارب والتعاون والعلاقة بين المسلمين وبين
النصارى ، كما في فترة من الفترات، حيث كانوا يقولون: إن وجود مسجد
عمر في
القدس إلى جانب الكنيسة دليل على التجانس والتقارب والأخوة والتسامح بين الدينين: الإسلامي والمسيحي، فمن قال هذا واعتقد هذا فهو -في الحقيقة- ما شهد أن لا إله إلا الله وما شهد أن محمداً رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا برئ من أي دين يخالف دين الإسلام. فالأمر -في الحقيقة- خطير جداً؛ لأنه ليس مجرد فساد في عمل من أعمال الإيمان، وإنما هو فساد في أصل الإيمان وأصل الدين، ومهما تعبد العبد بعد ذلك فلن ينفعه عمله، كما قال تعالى: ((
وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا ))[الفرقان:23]، فلا يقبل الله تبارك وتعالى ممن يعتقد الباطل ولم يحقق إيمانه كما أمر صرفاً ولا عدلاً. لذلك قال
ابن القيم رحمه الله: (وكذلك من عرف بقلبه وأقر بلسانه لم يكن بمجرد ذلك مؤمناً حتى يأتي بعمل القلب من الحب والبغض والموالاة والمعاداة، فيحب الله ورسوله، ويوالي أولياء الله، ويعادي أعداءه، ويستسلم بقلبه لله وحده، وينقاد لمتابعة رسول الله وطاعته والتزام شريعته ظاهراً وباطناً) ولا يخلط بها شريعة أخرى وأفكاراً أخرى: ((
وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ ))[الأحزاب:36]، فإذا قال الله أو رسوله صلى الله عليه وسلم: هذا حق، أو: هذا حلال، أو: هذا حرام، أو: هذا باطل، أو: هذا ضار، أو: هذا نافع؛ فلا كلام لأحد بعد ذلك أبداً، ولو كان إماماً أو عالماً مجتهداً، فلا يجوز أن نقول: إن هذا الأمر قد حرمته الشريعة ولكن القوانين الوضعية تبيحه! فالمسألة دائرة بين الأمرين، وكأن القضية فتوى بين حكم الله وحكم غيره، وقد قال تعالى: ((
أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ ))[المائدة:50]. فالمسألة بين أمرين: إما حكم الله وإما حكم الجاهلية، إما الحق الذي أنزله الله وإما أهواء باطلة: ((
وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ ))[المائدة:49]، فكل ما عدا ما أنزل الله من اجتهاد واستنباط أهواء لا تتبع ولا ينظر إليها، وهي حكم الجاهلية، وهي التحاكم إلى الطاغوت، وهي الكفر فلا بد من تجريد الولاء في الاتباع والالتزام بالشريعة ظاهراً وباطناً، حتى يكون الإنسان مؤمناً حقاً. يقول: (وإذا فعل ذلك لم يكف في كمال إيمانه حتى يفعل ما أمر به)؛ لأن هناك أصلاً للإيمان، ثم يكمل هذا الأصل بالإيمان الواجب، ثم يكمل بالإيمان المستحب. فالمقصود هنا الكمال الواجب، فإذا انقاد واستسلم وأذعن بقلبه؛ فإنه لا يمكن أن يكون قد أتى بالإيمان الواجب إلا بأن يفعل ما أمر به ويكف عما نهي عنه. يقول: (فهذه الأركان الأربعة هي أركان الإيمان التي قام عليها بناؤه)، فهي أركان أربعة لأن القول قولان والعمل عملان.